الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **
{الم، غلبت الروم، في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون، في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون، بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم} قوله تعالى}الم. غلبت الروم. في أدنى الأرض} وقال المفسرون: إن سبب غلبة الروم فارس امرأة كانت في فارس لا تلد إلا الملوك والأبطال، فقال لها كسرى: أريد أن أستعمل أحد بنيك على جيش أجهزه إلى الروم؛ فقالت: هذا هرمز أروع من ثعلب وأحذر من صقر، وهذا فرخان أحد من سنان وأنفذ من نبل، وهذا شهر بزان أحلم من كذا، فاختر؛ قال فاختار الحليم وولاه، فسار إلى الروم بأهل فارس فظهر على الروم. قال عكرمة وغيره: إن شهر بزان لما غلب الروم خرب ديارها حتى بلغ الخليج، فقال أخوه فرخان: لقد رأيتني جالسا على سرير كسرى؛ فكتب كسرى إلى شهر بزان أرسل إلي برأس فرخان فلم يفعل؛ فكتب كسرى إلى فارس: إني قد استعملت عليكم فرخان وعزلت شهر بزان، وكتب إلى فرخان إذا ولي أن يقتل شهر بزان؛ فأراد فرَّخان قتل شهر بزان فأخرج له شهر بزان ثلاث صحائف من كسرى يأمره بقتل فرخان، فقال شهر بزان لفرخان: إن كسرى كتب إلي أن أقتلك ثلاث صحائف وراجعته أبدا في أمرك، أفتقتلني أنت بكتاب واحد؟ فرد الملك إلى أخيه، وكتب شهر بزان إلى قيصر ملك الروم فتعاونا على كسرى، فغلبت الروم فارس ومات كسرى. وجاء الخبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية ففرح من معه من المسلمين؛ فذلك قوله تعالى}الم. غلبت الروم. في أدنى الأرض} يعني أرض الشام. عكرمة: بأذرعات، وهي ما بين بلاد العرب والشام. وقيل: إن قيصر كان بعث رجلا يدعى يحنس وبعث كسرى شهر بزان فالتقيا بأذرعات وبصرى وهي أدنى بلاد الشام إلى أرض العرب والعجم. مجاهد: بالجزيرة، وهو موضع بين العراق والشام. مقاتل: بالأردن وفلسطين. و}أدنى} معناه أقرب. قال ابن عطية: فإن كانت الواقعة بأذرعات فهي من أدنى الأرض بالقياس إلى مكة، وهي التي ذكرها امرؤ القيس في قوله: وإن كانت الواقعة بالجزيرة فهي أدنى بالقياس إلى أرض كسرى، وإن كانت بالأردن فهي أدنى إلى أرض الروم. فلما طرأ ذلك وغُلبت الروم سر الكفار فبشر الله عباده بأن الروم سيغلبون وتكون الدولة لهم في الحرب. وقد مضى الكلام في فواتح السور. وقرأ أبو سعيد الخدري وعلي بن أبي طالب ومعاوية بن قرة }غَلَبت الروم} بفتح الغين واللام. وتأويل ذلك أن الذي طرأ يوم بدر إنما كانت الروم غلبت فعز ذلك على كفار قريش وسر بذلك المسلمون، فبشر الله تعالى عباده أنهم سيغلبون أيضا في بضع سنين؛ ذكر هذا التأويل أبو حاتم. قال أبو جعفر النحاس: قراءة أكثر الناس }غلبت الروم} بضم العين وكسر اللام. وروي عن ابن عمر وأبي سعيد الخدري أنهما قرأ }غَلَبت الروم} وقرأ }سيُغلبون}. وحكى أبو حاتم أن عصمة روى عن هارون: أن هذه قراءة أهل الشام؛ وأحمد بن حنبل يقول: إن عصمة هذا ضعيف، وأبو حاتم كثير الحكاية عنه، والحديث يدل على أن القراءة }غُلبت} بضم الغين، وكان في هذا الإخبار دليل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، لأن الروم غلبتها فارس، فأخبر الله عز وجل نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن الروم ستغلب فارس في بضع سنين، وأن المؤمنين يفرحون بذلك، لأن الروم أهل كتاب، فكان هذا من علم الغيب الذي أخبر الله عز وجل به مما لم يكن علموه، وأمر أبا بكر أن يراهنهم على ذلك وأن يبالغ في الرهان، ثم حرم الرهان بعد ونسخ بتحريم القمار. قال ابن عطية: والقراءة بضم الغين أصح، وأجمع الناس على }سيغلبون} أنه بفتح الياء، يراد به الروم. وي روى عن ابن عمر أنه قرأ أيضا بضم الياء في }سيغلبون}، وفي هذه القراءة قلب للمعنى الذي تظاهرت الروايات به. قال أبو جعفر النحاس: ومن قر }سيغلبون} فالمعنى عنده: وفارس من بعد غلبهم، أي من بعد أن غلبوا، سيغلبون. وروي أن إيقاع الروم بالفرس كان يوم بدر؛ كما في حديث أبي سعيد الخدري حديث الترمذي، وروي أن ذلك كان يوم الحديبية، وأن الخبر وصل يوم بيعة الرضوان؛ قاله عكرمة وقتادة. قال ابن عطية: وفي كلا اليومين كان نصر من الله للمؤمنين. وقد ذكر الناس أن سبب سرور المسلمين بغلبة الروم وهمهم أن تغلب إنما هو أن الروم أهل كتاب كالمسلمين، وفارس من أهل الأوثان؛ كما تقدم بيانه في الحديث. قال النحاس: وقول آخر وهو أولى - أن فرحهم إنما كان لإنجاز وعد الله تعالى؛ إذ كان فيه دليل على النبوة لأنه أخبر تبارك وتعالى بما يكون في بضع سنين فكان فيه. قال ابن عطية: ويشبه أن يعلل ذلك بما يقتضيه النظر من محبة أن يغلب العدو الأصغر لأنه أيسر مؤونة، ومتى غلب الأكبر كثر الخوف منه؛ فتأمل هذا المعنى، مع ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ترجاه من ظهور دينه وشرع الله الذي بعثه به وغلبته على الأمم، وإرادة كفار مكة أن يرميه الله بملك يستأصله ويريحهم منه. وقيل: سرورهم إنما كان بنصر رسول الله صلى الله عليه وسلم على المشركين؛ لأن جبريل أخبر بذلك النبي عليه السلام يوم بدر؛ حكاه القشيري. قلت: ويحتمل أن يكون سرورهم بالمجموع من ذلك، فسروا بظهورهم على عدوهم وبظهور الروم أيضا وبإنجاز وعد الله. وقرأ أبو حيوة الشامي ومحمد بن السميقع }من بعد غلبهم} بسكون اللام، وهما لغتان؛ مثل الظعن والظعن. وزعم الفراء أن الأصل }من بعد غلبتهم} فحذفت التاء كما حذفت في قوله عز وجل }وإقام الصلاة} وأصله وإقامة الصلاة. قال النحاس}وهذا غلط لا يخيل على كثير من أهل النحو؛ لأن }إقام الصلاة} مصدر قد حذف منه لاعتلال فعله، فجعلت التاء عوضا من المحذوف، و}غلب} ليس بمعتل ولا حذف منه شيء. وقد حكى الأصمعي: طرد طردا، وجلب جلبا، وحلب حلبا، وغلب غلبا؛ فأي حذف في هذا، وهل يجوز أن يقال في أكل أكلا وما أشبهه - : حذف منه} ؟. }في بضع سنين} حذفت الهاء من }بضع} فرقا بين المذكر والمؤنث، وقد مضى الكلام فيه في }يوسف}. وفتحت النون من }سنين} لأنه جمع مسلم. ومن العرب من يقول }في بضع سنين} كما يقول في }غسلين}. وجاز أن يجمع سنة جمع من يعقل بالواو والنون والياء والنون، لأنه قد حذف منها شيء فجعل هذا الجمع عوضا من النقص الذي في واحده؛ لأن أصل }سنة} سنهة أو سنوة، وكسرت السين منه دلالة على أن جمعه. خارج عن قياسه ونمطه؛ هذا قول البصريين. ويلزم الفراء أن يضمها لأنه يقول: الضمة دليل على الواو وقد حذف من سنة واو في أحد القولين، ولا يضمها أحد علمناه. قوله تعالى}لله الأمر من قبل ومن بعد} أخبر تعالى بانفراده بالقدرة وأن ما في العالم من غلبة وغيرها إنما هي منه وبإرادته وقدرته فقال }لله الأمر} أي إنفاذ الأحكام. {من قبل ومن بعد} أي من قبل هذه الغلبة ومن بعدها. وقيل: من قبل كل شيء ومن بعد كل شيء. و}من قبل ومن بعد} ظرفان بنيا على الضم؛ لأنهما تعرفا بحذف ما أضيفا إليهما وصارا متضمنين ما حذف فخالفا تعريف الأسماء وأشبها الحروف في التضمين فبنِيا، وخصا بالضم لشبههما بالمنادى المفرد في أنه إذا نكر وأضيف زال بناؤه، وكذلك هما فضما. ويقال}من قبل ومن بعد}. وحكى الكسائي عن بعض بني أسد }لله الأمر من قبل ومن بعد} الأول مخفوض منون، والثاني مضموم بلا تنوين. وحكى الفراء }من قبل ومن بعد} مخفوضين بغير تنوين. وأنكره النحاس ورده. وقال الفراء في كتابه: في القرآن أشياء كثيرة، الغلط فيها بين، منها أنه زعم أنه يجوز }من قبل ومن بعد} وإنما يجوز }من قبل ومن بعد} على أنهما نكرتان. قال الزجاج: المعنى من متقدم ومن متأخر. }ويومئذ يفرح المؤمنون. بنصر الله} تقدم ذكره. }ينصر من يشاء} يعني من أوليائه؛ لأن نصره مختص بغلبة أوليائه لأعدائه، فأما غلبة أعدائه لأوليائه فليس بنصره، وإنما هو ابتلاء وقد يسمى ظفرا. }وهو العزيز} في نقمته }الرحيم} لأهل طاعته. {وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون، يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون} قوله تعالى}وعد الله لا يخلف الله وعده} لأن كلامه صدق. }ولكن أكثر الناس لا يعلمون} وهم الكفار وهم أكثر. وقيل: المراد مشركو مكة. وانتصب }وعد الله} على المصدر؛ أي وعد ذلك وعدا. ثم بين تعالى مقدار ما يعلمون فقال}يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا} يعني أمر معايشهم ودنياهم: متى يزرعون ومتى يحصدون، وكيف يغرسون وكيف يبنون؛ قاله ابن عباس وعكرمة وقتادة. وقال الضحاك: هو بنيان قصورها، وتشقيق أنهارها وغرس أشجارها؛ والمعنى واحد. وقيل: هو ما تلقيه الشياطين إليهم من أمور الدنيا عند استراقهم السمع من سماء الدنيا؛ قاله سعيد بن جبير. وقيل: الظاهر والباطن؛ كما قال في موضع آخر قلت: وقول ابن عباس أشبه بظاهر الحياة الدنيا، حتى لقد قال الحسن: بلغ والله من علم أحدهم بالدنيا أنه ينقد الدرهم فيخبرك بوزنه ولا يحسن أن يصلي. وقال أبو العباس المبرد: قسم كسرى أيامه فقال: يصلح يوم الريح للنوم، ويوم الغيم للصيد، ويوم المطر للشرب واللهو، ويوم الشمس للحوائج. قال ابن خالويه: ما كان أعرفهم بسياسة دنياهم، يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا. }وهم عن الآخرة} أي عن العلم بها والعمل لها }هم غافلون} قال بعضهم: فطنٍ بكل مصيبة في ماله وإذا يصاب بدينه لم يشعر {أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون} قوله تعالى}في أنفسهم} ظرف للتفكير وليس بمفعول، تعدى إليه }يتفكروا} بحرف جر؛ لأنهم لم يؤمروا أن يتفكروا في خلق أنفسهم، إنما أمروا أن يستعملوا التفكر في خلق السموات والأرض وأنفسهم، حتى يعلموا أن الله لم يخلق السموات وغيرها إلا بالحق. قال الزجاج: في الكلام حذف، أي فيعلموا؛ لأن في الكلام دليلا عليه. }إلا بالحق} قال الفراء: معناه إلا للحق؛ يعني الثواب والعقاب. وقيل: إلا لإقامة الحق. وقيل}بالحق} بالعدل. وقيل: بالحكمة؛ والمعنى متقارب. وقيل}بالحق} أي أنه هو الحق وللحق خلقها، وهو الدلالة على توحيده وقدرته. }وأجل مسمى} أي للسموات والأرض أجل ينتهيان إليه وهو يوم القيامة. وفي هذا تنبيه على الفناء، وعلى أن لكل مخلوق أجلا، وعلى ثواب المحسن وعقاب المسيء. وقيل}وأجل مسمى} أي خلق ما خلق في وقت سماه لأن يخلق ذلك الشيء فيه. }وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون} اللام للتوكيد، والتقدير: لكافرون بلقاء ربهم، على التقديم والتأخير؛ أي لكافرون بالبعث بعد الموت. وتقول: إن زيدا في الدار لجالس. ولو قلت: إن زيدا لفي الدار لجالس جاز. فإن قلت: إن زيدا جالس لفي الدار لم يجز؛ لأن اللام إنما يؤتى بها توكيدا لاسم إن وخبرها، وإذا جئت بهما لم يجز أن تأتي بها. وكذا إن قلت: إن زيدا لجالس لفي الدار لم يجز. {أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} قوله تعالى}أولم يسيروا في الأرض فينظروا} ببصائرهم وقلوبهم. }كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض} أي قلبوها للزراعة؛ لأن أهل مكة لم يكونوا أهل حرث؛ قال الله تعالى {ثم كان عاقبة الذين أساؤوا السوأى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون} قوله تعالى}ثم كان عاقبة الذين أساؤوا السوأى} السوأى فعلى من السوء تأنيث الأسوأ وهو الأقبح، كما أن الحسنى تأنيث الأحسن، وقيل: يعني بها ها هنا النار؛ قاله ابن عباس. ومعنى }أساؤوا} أشركوا؛ دل عليه }أن كذبوا بآيات الله}. }السوأى}: اسم جهنم؛ كما أن الحسنى اسم الجنة. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو }ثم كان عاقبة الذين} بالرفع اسم كان، وذكرت لأن تأنيثها غير حقيقي. و}السوأى} خبر كان. والباقون بالنصب على خبر كان. }السوأى} بالرفع اسم كان. ويجوز أن يكون اسمها التكذيب؛ فيكون التقدير: ثم كان التكذيب عاقبة الذين أساؤوا ويكون السوأى مصدرا لأساؤوا، أو صفة لمحذوف؛ أي الخلة السوأى. وروي عن الأعمش أنه قرأ }ثم كان عاقبة الذين أساؤوا السوء} برفع السوء. قال النحاس: السوء أشد الشر؛ والسوأى الفعلى منه. }أن كذبوا بآيات الله} أي لأن كذبوا؛ قاله الكسائي. وقيل: بأن كذبوا. وقيل بمحمد والقرآن؛ قاله الكلبي. مقاتل: بالعذاب أن ينزل بهم. الضحاك: بمعجزات محمد صلى الله عليه وسلم }وكانوا بها يستهزئون}. {الله يبدأ الخلق ثم يعيده ثم إليه ترجعون، ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون، ولم يكن لهم من شركائهم شفعاء وكانوا بشركائهم كافرين} قرأ أبو عمرو وأبو بكر }يرجعون} بالياء. الباقون بالتاء. }ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون} وقرأ أبو عبدالرحمن السلمي }يبلس} بفتح اللام؛ والمعروف في اللغة: أبلس الرجل إذا سكت وانقطعت حجته، ولم يؤمل أن يكون له حجة. وقريب منه: تحير؛ كما قال العجاج: وقد زعم بعض النحويين أن إبليس مشتق من هذا، وأنه أبلس لأنه انقطعت حجته. النحاس: ولو كان كما قال لوجب أن ينصرف، وهو في القرآن غير منصرف. الزجاج: المبلس الساكت المنقطع في حجته، اليائس من أن يهتدي إليها. }ولم يكن لهم من شركائهم} أي ما عبدوه من دون الله }شفعاء وكانوا بشركائهم كافرين} قالوا ليسوا بآلهة فتبرؤوا منها وتبرأت منهم؛ حسبما تقدم في غير موضع. {ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون، فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يحبرون} قوله تعالى}ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون} يعني المؤمنين من الكافرين؛ ثم بين كيف تفريقهم فقال}فأما الذين آمنوا} قال النحاس: سمعت الزجاج يقول: معنى }أما} دع ما كنا فيه وخذ في غيره. وكذا قال سيبويه: إن معناها مهما كنا في شيء فخذ في غير ما كنا فيه. }فهم في روضة يحبرون} قال الضحاك: الروضة الجنة، والرياض الجنان. وقال أبو عبيد: الروضة ما كان في تسفل، فإذا كانت مرتفعة فهي ترعة. وقال غيره: أحسن ما تكون الروضة إذا كانت في موضع مرتفع غليظ؛ كما قال الأعشى: يضاحك الشمس منها كوكب شرق مؤزر بعميم النبت مكتهل
يوما بأطيب منها نشر رائحة ولا بأحسن منها إذ دنا الأصل إلا أنه لا يقال لها روضة إلا إذا كان فيها نبت، فإن لم يكن فيها نبت وكانت مرتفعة فهي ترعة. وقد قيل في الترعة غير هذا. وقال القشيري: والروضة عند العرب ما ينبت حول الغدير من البقول؛ ولم يكن عند العرب شيء أحسن منه. الجوهري: والجمع روض ورياض، صارت الواو ياء لكسر ما قبلها. والروض: نحو من نصف القربة ماء. وفي الحوض روضة من ماء إذا غطى أسفله. وأنشد أبو عمرو: {يحبرون} قال الضحاك وابن عباس: يكرمون. وقيل ينعمون؛ وقاله مجاهد وقتادة. وقيل يسرون. السدي: يفرحون. والحبرة عند العرب: السرور والفرح؛ ذكره الماوردي. وقال الجوهري: الحبر: الحبور وهو السرور؛ ويقال: حبره يحبره (بالضم) حبرا وحبرة؛ قال تعالى}فهم في روضة يحبرون} أي ينعمون ويكرمون ويسرون. ورجل يحبور يفعول من الحبور. النحاس: وحكى الكسائي حبرته أي أكرمته ونعمته. وسمعت علي بن سليمان يقول: هو مشتق من قولهم: على أسنانه حبرة أي أثر؛ فـ }يحبرون} يتبين عليهم أثر النعيم. والحبر مشتق من هذا. قال الشاعر: لا تملأ الدلو وعرق فيها أما ترى حبار من يسقيها وقيل: أصله من التحبير وهو التحسين؛ فـ }يحبرون} يحسنون. يقال: فلان حسن الحبر والسبر إذا كان جميلا حسن الهيئة. ويقال أيضا: فلان حسن الحبر والسبر (بالفتح)؛ وهذا كأنه مصدر قولك: حبرته حبرا إذا حسنته. والأول اسم؛ ومنه الحديث: قلت: وهذا كله من النعيم والسرور والإكرام؛ فلا تعارض بين تلك الأقوال. وأين هذا من قوله الحق {وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة فأولئك في العذاب محضرون} قوله تعالى}وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا} تقدم الكلام فيه. }ولقاء الآخرة} أي بالبعث. }فأولئك في العذاب محضرون} أي مقيمون. وقيل: مجموعون. وقيل: معذبون. وقيل: نازلون؛ ومنه قوله تعالى {فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون، وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون} قوله تعالى}فسبحان الله} الآية فيه ثلاثة أقوال: الأول: أنه خطاب للمؤمنين بالأمر بالعبادة والحض على الصلاة في هذه الأوقات. قال ابن عباس: الصلوات الخمس في القرآن؛ قيل له: أين؟ فقال: قال الله تعالى }فسبحان الله حين تمسون} صلاة المغرب والعشاء }وحين تصبحون} صلاة الفجر }وعشيا} العصر }وحين تظهرون} الظهر؛ وقاله الضحاك وسعيد بن جبير. وعن ابن عباس أيضا وقتادة: أن الآية تنبيه على أربع صلوات: المغرب والصبح والعصر والظهر؛ قالوا: والعشاء الآخرة هي في آية أخرى في قوله تعالى}وله الحمد في السماوات والأرض} اعتراض بين الكلام بدؤوب الحمد على نعمه وألائه. وقيل: معنى }وله الحمد} أي الصلاة له لاختصاصها بقراءة الحمد. والأول أظهر؛ فإن الحمد لله من نوع تعظيم الله تعالى والحض على عبادته ودوام نعمته؛ فيكون نوعا آخر خلاف الصلاة، والله أعلم. وبدأ بصلاة المغرب لأن الليل يتقدم النهار. وفي سورة }الإسراء} بدأ بصلاة الظهر إذ هي أول صلاة صلاها جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم. الماوردي: وخص صلاة الليل باسم التسبيح وصلاة النهار باسم الحمد لأن للإنسان في النهار متقلبا في أحوال توجب حمد الله تعالى عليها، وفي الليل على خلوة توجب تنزيه الله من الأسواء فيها؛ فلذلك صار الحمد بالنهار أخص فسميت به صلاة النهار، والتسبيح بالليل أخص فسميت به صلاة الليل. قرأ عكرمة }حينا تمسون وحينا تصبحون} والمعنى: حينا تمسون فيه وحينا تصبحون فيه؛ فحذف }فيه} تخفيفا، والقول فيه كالقول في الماوردي: والفرق بين المساء والعشاء: أن المساء بدو الظلام بعد المغيب، والعشاء آخر النهار عند ميل الشمس للمغيب، وهو مأخوذ من عشا العين وهو نقص النور من الناظر كنقص نور الشمس. {يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون} بين كمال قدرته؛ أي كما أحيا الأرض بإخراج النبات بعد همودها، كذلك يحييكم بالبعث. وفي هذا دليل على صحة القياس؛ وقد مضى في }آل عمران} بيان {ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون، ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون، ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين، ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون، ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا وينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون، ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون، وله من في السماوات والأرض كل له قانتون} قوله تعالى}ومن آياته أن خلقكم من تراب} أي من علامات ربوبيته ووحدانيته أن خلقكم من تراب؛ أي خلق أباكم منه والفرع كالأصل، وقد مضى بيان هذا في }الأنعام}. و}أن} في موضع رفع بالابتداء وكذا }أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا}. قوله تعالى}ثم إذا أنتم بشر تنتشرون} ثم أنتم عقلاء ناطقون تتصرفون فيما هو قوام معايشكم، فلم يكن ليخلقكم عبثا؛ ومن قدر على هذا فهو أهل للعبادة والتسبيح. ومعنى}خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها} أزواجا} أي نساء تسكنون إليها. }من أنفسكم} أي من نطف الرجال ومن جنسكم. وقيل: المراد حواء، خلقها من ضلع آدم؛ قاله قتادة. }وجعل بينكم مودة ورحمة} قال ابن عباس ومجاهد: المودة الجماع، والرحمة الولد؛ وقاله الحسن. وقيل: المودة والرحمة عطف قلوبهم بعضهم على بعض. وقال السدي: المودة: المحبة، والرحمة: الشفقة؛ وروي معناه عن ابن عباس قال: المودة حب الرجل امرأته، والرحمة رحمته إياها أن يصيبها بسوء. ويقال: إن الرجل أصله من الأرض، وفيه قوة الأرض، وفيه الفرج الذي منه بدئ خلقه فيحتاج إلى سكن، وخلقت المرأة سكنا للرجل؛ قال الله تعالى}ومن آياته أن خلقكم من تراب} الآية. وقال}ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها} فأول ارتفاق الرجل بالمرأة سكونه إليها مما فيه من غليان القوة، وذلك أن الفرج إذا تحمل فيه هيج ماء الصلب إليه، فإليها يسكن وبها يتخلص من الهياج، وللرجال خلق البضع منهن، قال الله تعالى قوله تعالى}ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله} قيل: في هذه الآية تقديم وتأخير، والمعنى: ومن آياته منامكم بالليل وابتغاؤكم من فضله بالنهار؛ فحذف حرف الجر لاتصاله بالليل وعطفه عليه، والواو تقوم مقام حرف الجر إذا اتصلت بالمعطوف عليه في الاسم الظاهر خاصة؛ فجعل النوم بالليل دليلا على الموت، والتصرف بالنهار دليلا على البعث. }إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون} يريد سماع تفهم وتدبر. وقيل: يسمعون الحق فيتبعونه. وقيل: يسمعون الوعظ فيخافونه. وقيل: يسمعون القرآن فيصدقونه؛ والمعنى متقارب. وقيل: كان منهم من إذا تلي القرآن وهو حاضر سد أذنيه حتى لا يسمع؛ فبين الله عز وجل هذه الدلائل عليه. }ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا} قيل: المعنى أن يريكم، فحذف }أن} لدلالة الكلام عليه؛ قال طرفة: وقيل: هو على التقديم والتأخير؛ أي ويريكم البرق من آياته. وقيل: أي ومن آياته آية يريكم بها البرق؛ كما قال الشاعر: وقيل: أي من آياته أنه يريكم البرق خوفا وطمعا من آياته؛ قاله الزجاج، فيكون عطف جملة على جملة. }خوفا} أي للمسافر. }وطمعا} للمقيم؛ قاله قتادة. الضحاك}خوفا} من الصواعق، }وطمعا} في الغيث. يحيى بن سلام}خوفا} من البرد أن يهلك الزرع، }وطمعا} في المطر أن يحيي الزرع. ابن بحر}خوفا} أن يكون البرق برقا خُلَّبا لا يمطر، }وطمعا} أن يكون ممطرا؛ وأنشد قول الشاعر: وقال آخر: والبرق الخلّب: الذي لا غيث فيه كأنه خادع؛ ومنه قيل لمن يعد ولا ينجز: إنما أنت كبرق خلب. والخلب أيضا: السحاب الذي لا مطر فيه. ويقال: برق خلب، بالإضافة. قوله تعالى}وينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون} تقدم. }ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره} }أن} في محل رفع كما تقدم؛ أي قيامها واستمساكها بقدرته بلا عمد. وقيل: بتدبيره وحكمته؛ أي يمسكها بغير عمد لمنافع الخلق. وقيل}بأمره} بإذنه؛ والمعنى واحد. }ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون} أي الذي فعل هذه الأشياء قادر على أن يبعثكم من قبوركم؛ والمراد سرعة وجود ذلك من غير توقف ولا تلبث؛ كما يجيب الداعي المطاع مدعوه؛ كما قال القائل: يريد برأس الطود: الصدى أو الحجر إذا تدهده. وإنما عطف هذا على قيام السموات والأرض بـ }ثم} لعظم ما يكون من ذلك الأمر واقتداره على مثله، وهو أن يقول: يأهل القبور قوموا؛ فلا تبقى نسمة من الأولين والآخرين إلا قامت تنظر؛ كما قال تعالى {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم} قوله تعالى}وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده} أما بدء خلقه فبعلوقه في الرحم قبل ولادته، وأما إعادته فإحياؤه بعد الموت بالنفخة الثانية للبعث؛ فجعل ما علم من ابتداء خلقه دليلا على ما يخفى من إعادته؛ استدلالا بالشاهد على الغائب، ثم أكد ذلك بقوله }وهو أهون عليه} وقرأ ابن مسعود وابن عمر}يبدئ الخلق} من أبدأ يبدئ؛ دليله قوله تعالى والعرب تحمل أفعل على فاعل، ومنه قول الفرزدق: أي دعائمه عزيزة طويلة. وقال آخر: أراد: إني لوجل. وأنشد أبو عبيدة أيضا: أراد لمائل. وأنشد أحمد بن يحيى: أراد بواحد. وقال آخر: أي وفاضل. ومنه قولهم: الله أكبر؛ إنما معناه الله الكبير. و روى معمر عن قتادة قال: في قراءة عبدالله بن مسعود }وهو عليه هين}. وقال مجاهد وعكرمة والضحاك: إن المعنى أن الإعادة أهون عليه - أي على الله - من البداية؛ أي أيسر، وإن كان جميعه على الله تعالى هينا؛ وقاله ابن عباس. ووجهه أن هذا مثل ضربه الله تعالى لعباده؛ يقول: إعادة الشيء على الخلائق أهون من ابتدائه؛ فينبغي أن يكون البعث لمن قدر على البداية عندكم وفيما بينكم أهون عليه من الإنشاء. وقيل: الضمير في }عليه} للمخلوقين؛ أي وهو أهون عليه، أي على الخلق، يصاح بهم صيحة واحدة فيقومون ويقال لهم: كونوا فيكونون؛ فذلك أهون عليهم من أن يكونوا نطفا ثم علقا ثم مضغا ثم أجنة ثم أطفالا ثم غلمانا ثم شبانا ثم رجالا أو نساء. وقاله ابن عباس وقطرب. وقيل أهون أسهل؛ قال: أي سهل عليها، وقال الربيع بن خثيم في قوله تعالى}وهو أهون عليه} قال: ما شيء على الله بعزيز. عكرمة: تعجب الكفار من إحياء الله الموتى فنزلت هذه الآية. }وله المثل الأعلى} أي ما أراده جل وعز كان. وقال الخليل: المثل الصفة؛ أي وله الوصف الأعلى }في السموات والأرض} كما قال {ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون} قوله تعالى}من أنفسكم} ثم قال}من شركاء}؛ ثم قال}مما ملكت أيمانكم} فـ }من} الأولى للابتداء؛ كأنه قال: أخذ مثلا وانتزعه من أقرب شيء منكم وهي أنفسكم. والثانية للتبعيض، والثالثة زائدة لتأكيد الاستفهام. والآية نزلت في كفار قريش، كانوا يقولون في التلبية: لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك؛ قال سعيد بن جبير. وقال قتادة: هذا مثل ضربه الله للمشركين؛ والمعنى: هل يرضى أحدكم أن يكون مملوكه في ماله ونفسه مثله، فإذا لم ترضوا بهذا لأنفسكم فكيف جعلتم لله شركاء. قال بعض العلماء: هذه الآية أصل في الشركة بين المخلوقين لافتقار بعضهم إلى بعض ونفيها عن الله سبحانه، وذلك أنه لما قال جل وعز}ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم مما ملكت أيمانكم} الآية، فيجب أن يقولوا: ليس عبيدنا شركاءنا فيما رزقتنا، فيقال لهم: فكيف يتصور أن تنزهوا نفوسكم عن مشاركة عبيدكم وتجعلوا عبيدي شركائي في خلقي؛ فهذا حكم فاسد وقلة نظر وعمى قلب، فإذا بطلت الشركة بين العبيد وسادتهم فيما يملكه السادة والخلق كلهم عبيد لله تعالى فيبطل أن يكون شيء من العالم شريكا لله تعالى في شيء من أفعاله؛ فلم يبق إلا أنه واحد يستحيل أن يكون له شريك، إذ الشركة تقتضي المعاونة، ونحن مفتقرون إلى معاونة بعضنا بعضا بالمال والعمل؛ والقديم الأزلي منزه عن ذلك جل وعز. وهذه المسألة أفضل للطالب من حفظ ديوان كامل في الفقه؛ لأن جميع العبادات البدنية لا تصح إلا بتصحيح هذه المسألة في القلب، فافهم ذلك. {بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم فمن يهدي من أضل الله وما لهم من ناصرين} قوله تعالى}بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم} لما قامت عليهم الحجة ذكر أنهم يعبدون الأصنام باتباع أهوائهم في عبادتها وتقليد الأسلاف في ذلك. }فمن يهدي من أضل الله} أي لا هادي لمن أضله الله تعالى. وفي هذا رد على القدرية. }وما لهم من ناصرين}. {فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون} قوله تعالى}فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها} قال الزجاج}فطرة} منصوب بمعنى اتبع فطرة الله. قال: لأن معنى }فأقم وجهك للدين} اتبع الدين الحنيف واتبع فطرة الله. وقال الطبري}فطرة الله} مصدر من معنى}فأقم وجهك} لأن معنى ذلك: فطر الله الناس ذلك فطرة. وقيل: معنى ذلك اتبعوا دين الله الذي خلق الناس له؛ وعلى هذا القول يكون الوقف على }حنيفا} تاما. وعلى القولين الأولين يكون متصلا، فلا يوقف على }حنيفا}. وسميت الفطرة دينا لأن الناس يخلقون له، قال جل وعز واختلف العلماء في معنى الفطرة المذكورة في الكتاب والسنة على أقوال متعددة؛ منها الإسلام؛ قاله أبو هريرة وابن شهاب وغيرهما؛ قالوا: وهو المعروف عند عامة السلف من أهل التأويل؛ واحتجوا بالآية وحديث أبي هريرة، وعضدوا ذلك بحديث عياض بن حمار المجاشعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للناس يوما: قلت: قد مضى قول كعب هذا في }الأعراف} وجاء معناه مرفوعا من وقال إسحاق بن راهويه الحنظلي: تم الكلام عند قوله}فأقم وجهك للدين حنيفا} ثم قال}فطرة الله} أي فطر الله الخلق فطرة إما بجنة أو نار، وإليه أشار النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: قلت: وإلى ما اختاره أبو عمر واحتج له، ذهب غير واحد من المحققين منهم ابن عطية في تفسيره في معنى الفطرة، وشيخنا أبو العباس. قال ابن عطية: والذي يعتمد عليه في تفسير هذه اللفظة أنها الخلقة والهيئة التي في نفس الطفل التي هي معدة ومهيأة لأن يميز بها مصنوعات الله تعالى، ويستدل بها على ربه ويعرف شرائعه ويؤمن به؛ فكأنه تعالى قال: أقم وجهك للدين الذي هو الحنيف، وهو فطرة الله الذي على الإعداد له فطر البشر، لكن تعرضهم العوارض؛ ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: قلت: وهذا القول مع القول الأول موافق له في المعنى، وأن ذلك بعد الإدراك حين عقلوا أمر الدنيا، وتأكدت حجة الله عليهم بما نصب من الآيات الظاهرة: من خلق السموات والأرض، والشمس والقمر، والبر والبحر، واختلاف الليل والنهار؛ فلما عملت أهواؤهم فيهم أتتهم الشياطين فدعتهم إلى اليهودية والنصرانية فذهبت بأهوائهم يمينا وشمالا، وأنهم إن ماتوا صغارا فهم في الجنة، أعني جميع الأطفال، لأن الله تعالى لما أخرج ذرية آدم من صلبه في صورة الذر أقروا له بالربوبية وهو قوله تعالى قوله تعالى}لا تبديل لخلق الله} أي هذه الفطرة لا تبديل لها من جهة الخالق. ولا يجيء الأمر على خلاف هذا بوجه؛ أي لا يشقى من خلقه سعيدا، ولا يسعد من خلقه شقيا. وقال مجاهد: المعنى لا تبديل لدين الله؛ وقال قتادة وابن جبير والضحاك وابن زيد والنخعي، قالوا: هذا معناه في المعتقدات. وقال عكرمة: وروي عن ابن عباس وعمر بن الخطاب أن المعنى: لا تغيير لخلق الله من البهائم أن تخصى فحولها؛ فيكون معناه النهي عن خصاء الفحول من الحيوان. وقد مضى هذا في }النساء}. }ذلك الدين القيم} أي ذلك القضاء المستقيم؛ قاله ابن عباس. وقال مقاتل: ذلك الحساب البين. وقيل}ذلك الدين القيم} أي دين الإسلام هو الدين القيم المستقيم. }ولكن أكثر الناس لا يعلمون} أي لا يتفكرون فيعلمون أن لهم خالقا معبودا، وإلها قديما سبق قضاؤه ونفذ حكمه. {منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين، من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون} قوله تعالى}منيبين إليه} اختلف في معناه، فقيل: راجعين إليه بالتوبة والإخلاص. وقال يحيى بن سلام والفراء: مقبلين إليه. وقال عبدالرحمن بن زيد: مطيعين له. وقيل تائبين إليه من الذنوب؛ ومنه قول أبي قيس بن الأسلت: والمعنى واحد؛ فإن }ناب وتاب وثاب وآب} معناه الرجوع. قال الماوردي: وفي أصل الإنابة قولان: أحدهما: أن أصله القطع؛ ومنه أخذ اسم الناب لأنه قاطع؛ فكأن الإنابة هي الانقطاع إلى الله عز وجل بالطاعة. الثاني: أصله الرجوع؛ مأخوذ من ناب ينوب إذا رجع مرة بعد أخرى؛ ومنه النوبة لأنها الرجوع إلى عادة. الجوهري: وأناب إلى الله أقبل وتاب. والنوبة واحدة النوب، تقول: جاءت نوبتك ونيابتك، وهم يتناوبون النوبة فيما بينهم في الماء وغيره. وانتصب على الحال. قال محمد بن يزيد: لأن معنى}أقم وجهك} فأقيموا وجوهكم منيبين. وقال الفراء: المعنى فأقم وجهك ومن معك منيبين. وقيل: انتصب على القطع؛ أي فأقم وجهك أنت وأمتك المنيبين إليه؛ لأن الأمر له، أمر لأمته؛ فحسن أن يقول منيبين إليه، وقد قال الله تعالى {وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه ثم إذا أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون} قوله تعالى}وإذا مس الناس ضر} أي قحط وشدة }دعوا ربهم} أن يرفع ذلك عنهم }منيبين إليه} قال ابن عباس: مقبلين عليه بكل قلوبهم لا يشركون. ومعنى هذا الكلام التعجب، عجب نبيه من المشركين في ترك الإنابة إلى الله تعالى مع تتابع الحجج عليهم؛ أي إذا مس هؤلاء الكفار ضر من مرض وشدة دعوا ربهم؛ أي استغاثوا به في كشف ما نزل بهم، مقبلين عليه وحده دون الأصنام، لعلمهم بأنه لا فرج عندها. }ثم إذا أذاقهم منه رحمة} أي عافية ونعمة. }إذا فريق منهم بربهم يشركون} أي يشركون به في العبادة. {ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون} قوله تعالى}ليكفروا بما آتيناهم} قيل: هي لام كي. وقيل: هي لام أمر فيه معنى التهديد؛ كما قال جل وعز {أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون} قوله تعالى}أم أنزلنا عليهم سلطانا} استفهام فيه معنى التوقيف. قال الضحاك}سلطانا} أي كتابا؛ وقاله قتادة والربيع بن أنس. وأضاف الكلام إلى الكتاب توسعا. وزعم الفراء أن العرب تؤنث السلطان؛ تقول: قضت به عليك السلطان. فأما البصريون فالتذكير عندهم أفصح، وبه جاء القرآن، والتأنيث عندهم جائز لأنه بمعنى الحجة؛ أي حجة تنطق بشرككم؛ قاله ابن عباس والضحاك أيضا. وقال علي بن سليمان عن أبي العباس محمد بن يزيد قال: سلطان جمع سليط؛ مثل رغيف ورغفان، فتذكيره على معنى الجمع وتأنيثه على معنى الجماعة. وقد مضى في }آل عمران}. والسلطان: ما يدفع به الإنسان عن نفسه أمرا يستوجب به عقوبة؛ كما قال تعالى {وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون} قوله تعالى}وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها} يعني الخصب والسعة والعافية؛ قاله يحيى ابن سلام. النقاش: النعمة والمطر. وقيل: الأمن والدعة؛ والمعنى متقارب. }فرحوا بها} أي بالرحمة. }وإن تصبهم سيئة} أي بلاء وعقوبة؛ قاله مجاهد. السدي: قحط المطر. }بما قدمت أيديهم} أي بما عملوا من المعاصي. }إذا هم يقنطون} أي ييأسون من الرحمة والفرج؛ قاله الجمهور. وقال الحسن: إن القنوط ترك فرائض الله سبحانه وتعالى في السر. قنط يقنط، وهي قراءة العامة. وقنط يقنط، وهي قراءة أبي عمرو والكسائي ومعقوب. وقرأ الأعمش: قنِط يقنَط [الحجر: 56] بالكسر فيهما؛ مثل حسب يحسب. والآية صفة للكافر، يقنط عند الشدة، ويبطر عند النعمة؛ كما قيل: وكثير ممن لم يرسخ الإيمان في قلبه بهذه المثابة؛ وقد مضى في غير موضع. فأما المؤمن فيشكر ربه عند النعمة، ويرجوه عند الشدة. {أولم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون} قوله تعالى}أولم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر} أي يوسع الخير في الدنيا لمن يشاء أو يضيق؛ فلا يجب أن يدعوهم الفقر إلى القنوط. }إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون}. {فآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ذلك خير للذين يريدون وجه الله وأولئك هم المفلحون} لما تقدم أنه سبحانه يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر أمر من وسع عليه الرزق أن يوصل إلى الفقير كفايته ليمتحن شكر الغني. والخطاب للنبي عليه السلام والمراد هو وأمته؛ لأنه قال}ذلك خير للذين يريدون وجه الله}. وأمر بإيتاء ذي القربى لقرب رحمه؛ وخير الصدقة ما كان على القريب، وفيها صلة الرحم. وقد واختلف في هذه الآية؛ فقيل: إنها منسوخة بآية المواريث. وقيل: لا نسخ، بل للقريب حق لازم في البر على كل حال؛ وهو الصحيح. قال مجاهد وقتادة: صلة الرحم فرض من الله عز وجل، حتى قال مجاهد: لا تقبل صدقة من أحد ورحمه محتاجة. وقيل: المراد بالقربى أقرباء النبي صلى الله عليه وسلم. والأول أصح؛ فإن حقهم مبين في كتاب الله عز وجل في قوله قوله تعالى}ذلك خير للذين يريدون وجه الله} أي إعطاء الحق أفضل من الإمساك إذا أريد بذلك وجه الله والتقرب إليه. }وأولئك هم المفلحون} أي الفائزون بمطلوبهم من الثواب في الآخرة. وقد تقدم في }البقرة} القول فيه.
|